شهدت البلدان التي اندلعت فيها
الثورات العربية، سواء في ذلك من وصل منها إلى إسقاط النظام الاستبدادي أو يوشك أن يصل، ظاهرة خطيرة،
مشتركة.. ولا غرابة في ذلك، فالشعوب الثائرة تستمدّ وعيها من مشكاة واحدة،
والأوضاع الاستبدادية
التي ثارت عليها متشابهة في معظم جوانبها، متطابقة في جوهرها.
إنّها ظاهرة التناقض الكبير بين
جيل الشبيبة الذي صنع الثورات -ومضت الجماهير الشعبية من ورائه ثقةً به وبنقاء قياداته وإخلاصها، ولم تمض
من قبل وراء المعارضين
والناشطين التقليديين- وبين أولئك المعارضين والناشطين وأحزابهم وجماعاتهم وسياساتهم، في
الأعمّ الأغلب.
لم تنشأ ظاهرة التناقض هذه عما يقال بصدد تفجر طاقة الشبيبة -ذكورا وإناثا- وحكمة الأكبر سنا، أو بصدد ضعف خبرة الشبيبة والخبرة الطويلة للجيل الذي عايش الاستبداد منذ كان في سن الشباب، ولم يزحزحه من مواقعه، رغم كل ما صنع الاستبداد من نكبات وكوارث وتخلف.
لم تنشأ ظاهرة التناقض هذه عما يقال بصدد تفجر طاقة الشبيبة -ذكورا وإناثا- وحكمة الأكبر سنا، أو بصدد ضعف خبرة الشبيبة والخبرة الطويلة للجيل الذي عايش الاستبداد منذ كان في سن الشباب، ولم يزحزحه من مواقعه، رغم كل ما صنع الاستبداد من نكبات وكوارث وتخلف.
إن العنصر
الحاسم هو أن رؤى الشبيبة لم تتصلب وتتعقد، فكانت أطروحاتهم واضحة جلية قاطعة، بدءا
بالشعب يريد إسقاط النظام.. انتهاء بما يردده ثوار سوريا: الشعب السوري واحد.
بالمقابل نجد
في البلدان الخمسة السابقة للثورة، سواء تلك التي حقق الثوار فيها هدف إسقاط
النظام أو تلك التي
لا تزال التضحيات فيها متواصلة إلى أن يسقط النظام.. أن المعارضين التقليديين لم يعقدوا
مؤتمرا، ولا طرحوا مبادرة، ولا أنجزوا عملا، إلا وغلب فيه العجز عن التلاقي على الكليات الكبرى المشتركة
والضرورية لمستقبل بلدهم.. هذا مع أن جميعهم يرفع ذات العناوين: الديمقراطية،
والدولة المدنية،
والحقوق والحريات، والمواطنة، وضمان أوضاع الأقليات!
أين الخلل؟.. هل
هو خلل واحد؟.. ربما كان في جوهره واحدا، وربما يمكن بيانه عبر التأمل في
التعامل الجاري مع كلمة "ديمقراطية" كمثال جوهري.
ليس
للديمقراطية دين ولا انتماء
لقد ولدت الديمقراطية وفق المؤرخين لها، فيما عرف
بديمقراطية أثينا، في عصر الإغريق، قبل ولادة الأديان السماوية الثلاث، وقبل ولادة
العلمانية أيضا.. فلا يمكن احتكارها لمرجعية دينية ولا لمرجعية علمانية، ويوجد في
بلادنا من يتصرّف بصددها وكأنها حكر على مرجعيته فقط!
أخذ بالديمقراطية وسيلةً للحكم أهلُ أثينا وهم يعيشون وفق
مرجعية طبقية كما تشهد على ذلك مدينة أفلاطون الفاضلة، بينما وجدت استهزاءَ أرسطو (أول
من نحت كلمة ديمقراطية) وإنكاره دعوةُ سقراط للاستماع إلى رأي الدهماء، قاصدا
العامة من الشعب.
وأخذت بجوهر آلياتها في ممارسة الحكم دعوات المتنورين
الأوروبيين خلال تمردهم بحق على استبداد الكنيسة والإقطاع، فكان التنوير مرجعيتهم،
وليس العلمانية ولا الحداثة، وكلاهما ظهر بعد حقبة التنوير..
وها هي الديمقراطية اليوم تجد التطبيق دون أن تتناقض مع
المرجعيات المختلفة للقيم الذاتية، والوعي المعرفي الحضاري الذاتي، المتباين بين
أمة وأخرى، كما تشهد على ذلك ديمقراطيات الهند أو اليابان أو الغرب، على ما يوجد
بينها من اختلافات.
وها هي تطبق في بلدان سادت المرجعية العلمانية المشتركة
فيها، واختلفت المنظومات الثقافية، كما هو الحال بين فرنسا وألمانيا، أو فرنسا
والولايات المتحدة الأميركية، ولم يمنع هذا الاختلاف من تطبيق الآلية الديمقراطية
في الحكم هنا وهناك.
لا أحد من تلك الأطراف يزعم أن للديمقراطية ارتباطا احتكاريا،
أو انتماء احتكاريا، لمرجعية قيمه أو منظومته الثقافية، كذلك لا أحد ينفي صفة
الديمقراطية بسبب اختلاف التفاصيل في أشكال تطبيقها لتكون ديمقراطية شعبية في
سويسرا، ونيابية اتحادية في ألمانيا، وملكية دستورية في بريطانيا، ورئاسية تعددية
في فرنسا.
أما في ساحة ربيع الثورات العربية فلم تنضج ثمار الثورات
وتضحيات الثوار بعد، إلا واندلع الصراع على احتكار الديمقراطية على حسب منظور مَن
يمسك بكلتا يديه مقص مرجعيته لتفصيل الديمقراطية على مقاسه، ويأبى مرجعية سواه،
ويجعل من نفسه وصيّا على الديمقراطية التي تأبى بطبيعتها الوصاية عليها!.. ذاك هو
الإقصاء بعينه.. وكان من المفروض أن يقضي نحبه مع من سقط من المستبدين!
لا أغلال على تحكيم الإرادة الشعبية
لا تصدر ممارسات الإقصاء هذه عن الجيل الذي صنع الثورات،
ووجد من ثقة الشعب فيه ما جعل جميع فئات الأعمار تمضي معه في تلك الثورات، بل تصدر
عن جيل من المعارضين والناشطين ممن كانوا ضحايا الإقصاء في عهد الاستبداد، منذ
كانوا هم في سن الشبيبة، وكان يُفترض فيهم أن يكونوا أول من "يطلّق" الإقصاء
اليوم.. فكيف نستوعب أنهم يمارسونه فعلا، ويغرقون أهل بلادنا في موبقاته، ويخاطرون
بمصير ثورات بلادنا، من خلال رؤاهم وأطروحاتهم الإقصائية والانتقائية، بعد أن وصل -سواهم-
بهم إلى بوابة تطبيق الديمقراطية، ودفع لذلك ثمنا باهظا؟
لا ديمقراطية دون تحكيم الإرادة الشعبية، في كل شيء، ومن
يستثني شيئا يفتح ثغرة لتفريغ الديمقراطية من محتواها، ويفتح الباب على مصراعيه
أمام حقبة استبدادية جديدة، وهذا ما يسري بصدد تثبيت "المرجعية" في
منظومة القيم والمنظومة التشريعية مثلما يسري على سواها.
ليس للديمقراطية دين باعتبارها الآلية المعاصرة المثلى
لممارسة الحكم، إنما لا فارق هنا في تفريغها من محتواها، عبر أسلمتها مع إقصاء غير
الإسلاميين، وعبر علمنتها مع إقصاء غير العلمانيين.
ولا يعبر الإسلاميون عن حقيقة الإسلام وتعاليمه عندما
يأخذون بالديمقراطية وسيلة لممارسة الحكم، ثم يمارسون إقصاء "الإنسان" غير
المسلم، زاعمين لأنفسهم المرجعية الإسلامية، فالإسلام لم يقرر إقصاء أحد من تثبيت
الكرامة الإنسانية لجميع "بني آدم"، ولا في تثبيت الحرية لجميع "الناس"
في: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، ولا في تثبيت
الحقوق المادية للمؤمن والكافر دون تمييز في: "كلا نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء
ربك وما كان عطاء ربك محظورا"، ولا في تثبيت العدالة في الحكم بين "الناس"
وليس بين المؤمنين فقط.. ولا تنتهي هذه القائمة في جميع ما يتعلق بالحقوق والحريات
الإنسانية جميعا وفي شؤون الحكم كافة!
كذلك لا يعبر العلمانيون عن العلمانية عندما يفصلونها عن
جذورها الأولى التي سبقت ظهور العلمانية، عبر ممارساتهم الإقصائية، أي عندما
يجعلون من علمانيتهم هم مرجعية عرجاء، تعطيهم وأمثالهم دون سواهم، حق الوصاية على
أصحاب الاتجاهات الأخرى، ويتحولون إلى أدعياء للوصاية بغير حق، فهذا يصلح بمنظورهم
وذاك لا يصلح للديمقراطية، كما يستثنون أنفسهم فقط من المطالَبة التي يطلقونها
تجاه الإسلاميين تخصيصا، بتقديم الدليل على مصداقية دعواهم بصدد الديمقراطية، وهم
يعلمون أن معظم المستبدين في بلادنا قد ادعوا العلمانية ومارسوا بعض جوانبها أثناء
استبدادهم، فالأصل إذن أن يقدم العلمانيون اليوم الدليل على أنهم ليسوا مثلهم، أي
على مصداقية ديمقراطيتهم!
مخاطر ولادة استبداد جديد
الجميع جعل من الديمقراطية ليلاه وجعل من ذكرها عنوانا
وشعارا وهدفا مغناه، ولكن لا يزال كل طرف -أو معظم الأطراف- يُلبس الديمقراطية
لباسه الذي يضيق على "الآخر"، من قبل أن يصل أصلا إلى مرحلة ترسيخ الأسس
الأولى لنظام حكم ديمقراطي، فكيف إذا وصل إلى السلطة فعلا؟
آنذاك سيذكّر الشعبَ -وقد بات أوعى من كثير من السياسيين
المحترفين- بما سبق أن عايشه الشعب ولا يمكن أن ينساه، أن المستبدين الراحلين الآن
بعد عقود متطاولة، قد بدؤوا عهودهم جميعا، بادعاء الديمقراطية شعارا وعنوانا
ومنهجا، ثم مارسوا إقصاء "الآخر" من مختلف الألوان بمختلف الذرائع، فلم
يبق سوى الاستبداد، ولم يبق سوى المستبدين، وكانت الحصيلة أنهم الآن لا يغادرون
كراسي التسلط إلا على أنهار من الدماء وأمواج من الآلام ناهيك عن الأكداس المكدسة
من الثروات المنهوبة؟
إن من أخطر ما يتهدد البلدان العربية في ربيع ثوراتها هو
الانزلاق مجددا في حقبة استبداد تمتد لجيل أو أكثر، وتنطوي على مزيد من جولات
الصراع بين أصحاب الاتجاهات المتنافرة على حساب "الشعب الواحد بجميع أطيافه
وفئاته وانتماءاته".
تحرير إرادة الشعب والاحتكام إلى إرادة الشعب، هما في
مقدمة ما أعادته هذه الثورات من عالم الأدبيات الخطابية والإنشائية، إلى عالم
الواقع، وهما مما سالت من أجله دماء الضحايا من الشعب نفسه، وليس دماء من خاضوا
ويخوضون غمار جولات صراعهم مع بعضهم بعضا، دون الانتقاص من قيمة نضال من ناضل منهم
ضدّ الاستبداد في الحقبة الماضية، ولكن أمجاد الماضي ليست صك غفران لارتكاب
الأخطاء الفاحشة في الحاضر والمستقبل!
إن بعض دعاة الديمقراطية اليوم يزرعون بممارسات الإقصاء
بذور استبدادهم غدا.. إذا نجحوا في تمرير ما يريدون كما نجح "الأسلاف"،
ولا يكاد يبقى سوى وعي جيل الثورة، لا سيما من الشبيبة التي صنعت الثورة، ضمانا،
ألا يقع ذلك فيكرر ما وقع من قبل، عندما كانت غالبية شبيبة جيل الحقبة الماضية -وقد
أوشك على الرحيل في هذه الأثناء- تصفق لوعود كل حاكم جديد، ولم تحصد سوى موبقات
الاستبداد على كل صعيد.
لا بد أن يدرك الإسلاميون "التقليديون" جميعا -وكاتب
هذه السطور إسلامي دون انتماء لحزب أو جماعة- وأن يدرك العلمانيون التقليديون
جميعا، أن أي دعوة أو ممارسة أو مبادرة أو "ميثاق وطني" يحمل توقيعهم،
وينطوي على إقصاء أي طرف "آخر" من حق المشاركة في الاحتكام إلى إرادة
الشعب، على كل صعيد، بما في ذلك اختيار مرجعية القيم والتشريع في البلاد، هو عمل
إقصائي يتناقض مع الديمقراطية، ويتناقض مع المصالح العليا تناقضا مباشرا.
إذا أدرك هؤلاء وهؤلاء ذلك.. سقط الكثير من التناقضات
والعقبات في وجه تشييد بنيان قويم جديد.
ولئن كان الإقصاء مرفوضا في الأحوال والأوقات الاعتيادية،
فهو مرفوض أضعافا مضاعفة في الفترة الحالية ما بين اندلاع الثورات العربية
واستقرار أوضاع قويمة جديدة، فلا ينبغي أن يساهم طرف من الأطراف في إجهاض الربيع
العربي، مما بدأ يظهر -للأسف- على الساحة بقوة وبنتائج خطيرة، في تونس ومصر، وظهر
مبكرا في الساحة السورية، وهو ما يمنع -أكثر من أي عامل آخر- من تلاقي المعارضة
التقليدية على "كلمة سواء" تضمن أرضية مشتركة على أساس الكليات الكبرى
المشتركة، وهي كثيرة وكافية، وتشمل معظم ما تعنيه كلمات الديمقراطية والدولة
المدنية وحقوق الإنسان، أفرادا وأقليات، والتداول على السلطة وفصل السلطات. إذا
التزم الجميع بها آليات مجرّدة من الرؤى المرجعية الذاتية، مع التوافق على تحكيم
إرادة الشعب، الذي أصبح الجميع يقولون إنه مصدر السلطات، وسيد قراره، وهو بالتالي
الذي يحدد مرجعيته، ومنظومة قيمه.
أما من يعمل لفرض شيء من ذلك على الشعب بالإكراه المباشر
كما صنع المستبدون، أو تحت عناوين مبتكرة مثل "المبادئ فوق الدستورية"،
أو من خلال دعوى ترددت مؤخرا، وتزعم أن الديمقراطية مع مبادئ أصحاب تلك الدعوى، هي
فوق مبدأ الاحتكام لصناديق التعبير عن الإرادة الشعبية.. من يصنع ذلك إنما يقصي
نفسه بنفسه عن الحاضنة الشعبية الوطنية، التي صنعت ربيع الثورات العربية، وأظهرت
من الوعي ما يكفي لتأكيد استحالة ركونها بعد اليوم لمن يزرع المتفجرات والألغام
فيها.
المصدر: الجزيرة
Aucun commentaire :
Enregistrer un commentaire