د. جـمال حضري
كان الأجدر بحكام العرب أن يشغل بالهم مثل هذا السؤال
خاصة وهم يرون شعوبهم أو أغلبها تهب إلى الانتفاض عند كل فرصة تحين لها. وقد برهنت
هذه الشعوب بما لا يدع للشك خيطا للريبة أنها تود أن تفك أسرها بكل وسيلة، فتراها
تارة من ‘أكسل الشعوب’ وتارة أخرى ‘من أشغبها’، وبــــين تلك السلبـــية المريبة
وهذا الهرج المزعج تنطوي نفسية تراكم فيها اليأس والمرارة مع البغض والحقد على
واقع لم تجد منه خلاصا. لم يأخــــذ الحـــكام العرب أنفسم بتتبع أسباب هذه
النوازع ودواعيها سواء تفجرت عقب مباراة كروية أو استنامت في عز حراك سياسي
كالانتخابات التي تجريها الأنظمة وتصوت فيها ‘بنفسها ولنفسها’. أم تراهم كانوا
يدرون كل الحيثيات ولكنهم مطمئنون إلى ما أقاموه من جدر الخوف من المغامرة
والتغيير، حتى غدا طلب السلامة بطولة وحكمة يتوارثها الأبناء عن الآباء فطال
بالعرب القعود.
ليكن، سنساعد حكام العرب اليوم على فهم جانب من هذه الحالة النفسية المتجذرة
والتي قد تجد تعبيرات سياسية متعددة لا تخطئها عين اللبيب فما بالك بأجهزة التقاط الأنفاس العربية. ووجه المساعدة ليس حبا في استدامة أعمارها بل
السؤال إلى الله تعالى ‘أن يقصف هذه الأعمار’ ولكنه تنبيه لها إلى عمق الداء و’ضرورة الدواء’، وتنبيه
لمن سار
في الركاب غافلا عن فداحة الثمن الذي يدفعه وعن أثر هذا المسلك في نفوس الشعوب التي ينتسبون إليها.
أن يعارض الناس حاكمهم فهذه حالة صحية، أما أن يكرهوه فهي حالة مرضية يجب
الاعتناء بها. أما أن يشيع هذا الشعور بين العرب جميعا فتراهم يتندرون في مرارة بمن يحكموهم أو
يتصيدون الفرص للانتقاص منهم كحالة من التنفيس فهي حالة من المرض أعسر وأشد. فما الذي يا ترى حرم حكام العرب من محبة
شعوبهم وجعل ذات بينهم مقطوعة؟
لا يشك المتتبع لنفسية العربي تعلقه الشديد بدينه واستماتته في النضال دونه
ولو كان أحيانا غير ملتزم به ولا منضبط بحدوده. لأن الدين عند العربي ملجأ ومأوى حين تشتد الحاجة إلى
النصير والموئل،
وللمتلاعب أن يقفز على أي حبل إلا حبل الدين فسرعان ما يفقد المتلاعب بحبله ثقة الناس فيه كائنا من
كان. هنا وعند هذا المفصل فَقَدَ حكامُ العرب ‘ريش عوراتهم’ حين أخذوا بالنط والخبط حول الدين ورموزه.
ففي حال السلم والدعة والطمأنينة، تجد الحاكم أبعد ما يكون عن الدين، فلا
شيء يغريه بلبس هذا اللبوس الغريب عن مزاجه ودخيلته، لا شيء يدعوه لذلك خاصة وقد أعد جوقة من ‘ممثلي
الدين’ تزين المجالس
وتملأ الصورة دون أن تشوهها أو تغلب على ألوانها، بحيث لا يمكن لهذه الجوقة أن تتحول إلى نخبة
فاعلة مهما كلف الثمن، فلا يمكن السماح
بنفاذ الأثر الديني إلى صنع القرار، ولا يمكن لأي إنجاز
قل أو صغر أن يتم تحت عباءة ممثلي الدين حتى تظل الأضواء مسلطة على منبع واحد للقوة
والسطوة والنفوذ. فلا يتعب ممثلو الدين المتحلقون حول الحاكم العربي أنفسهم
ويحسبون أنفسهم نخبة من النخب المتنفذة، فإن لكل النخب ولو كانت رياضية أو فنية
من حرية
التحرك أضعاف ما لهم، بل إن قصارى دورهم هو تزكية القرار لا صنعه، وتسويقه لمن بقي يطمئن لدورهم ووظيفتهم،
فهل يجرؤ هؤلاء أن يفيدوا الناس بحكم الدين في أي مسألة قبل أن يعرفوا هوى الحاكم أين يقع؟ وريشة ذيله
أين تتجه؟
وأمام هذا الدور المشين والمهين، تتفاقم حالة الكره بين الحاكم العربي ومن
يحكم، لأن المحكومين أدركوا ومنذ زمن علاقة الحاكم بالدين الذي يحبون، وتهميشه لدوره وتجميد طاقته
وإشعاعه، فإذا كان الدين يشع بمسجد تم إسكاته بصوت موال مطيع، وإن كان بعالم تمت استمالته بألف طريقة وطريقة أو غُيّب عن
الأنظار حتى يُنسى أمره، وإن كان بتأليف تم حصاره ومنعه الخ. وكلما ازداد الحاكم إمعانا في هذا المسلك
زاد تمسك
الناس بالانتماء للدين ثورة واحتجاجا بعلم أو بغير علم. وازداد ممثلو الدين عزلة عن نبض الناس وتوجهاتهم. أما
في حالة الغرم والشدة، فسرعان ما يشمر حكام العرب عن ساعد الجد والطاعات، فيحج منهم من لم يولّ للقبلة
وجها ويعتمر،
ويهبون إلى المساجد في الليالي المباركات تسبقهم مواكب المستبشرين بالتوبة واعتدال الحال. وتتهاطل مشاريع
بناء المساجد الكبرى والعظمى، وتزدان نشرات الأخبار باستقبال أشهر العلماء والدعاة، وتتنافس القنوات
في عرض
المسابقات القرآنية المتوجة بالجوائز ‘السنية’ والأعطيات ‘الحاتمية’،
وحيثما يُيَمّمُ المشاهد العربي -الموجوع بوعيه والممتلئ
بغيضه- نظره وجد تحت كل مسابقة صورة لحاكم وعبارة لا تخطئها عين: ‘تحت الرعاية السامية..’. أليس في كل هذا ما يصيب كل كبد
بالمرض العضال؟
فإذا انتفض الناس وثاروا على غبن مشاعرهم والتلاعب بقيمهم، وأرادوا إنهاء
حالة الكذب الصريح عليهم، كان ممثلو الدين من الرسميين هم أول الضحايا، لأنهم أول ‘القذائف’ التي
ترمى بها
الجماهير الغاضبة، وهم طلقة الحكام الأولى لإسكات الثورات. فهنا يبين فعلا فهم الحكام العرب لنفسية شعوبهم،
يفهمون جيدا أن مقودها بالدين وعليه
يعولون، ومن هذا المنفذ يتسلل الحاكم العربي ليمارس
هوايته المرذولة، فيحشد ممثلي الدين الرسمي، يطوق بهم حركة الناس، ويسكت بهم أنفاس تحررهم. وسرعان ما تنبري هذه النخبة المزعومة والمخدوعة
لوظيفتها المريرة، فتحلل وتحرم بين يدي حكام لم يرتدعوا يوما أمام نص شرعي أو وضعي، ويستميتون في
مواجهة الناس
بالفهوم والنصوص مع أنهم لا يزيدون عن الضحايا الآخرين شبرا فهم في عين الحاكم سواء. والمأسوف عليه أن هذه
العدالة في توزيع الغدر لن تظهر إلا
في اللحظة الحاسمة حين يبيع الحاكم العربي الجميع من أجل
النفاذ بجلده.
هو ذا جانب من أهم جوانب توليد الكره في نفسية العربي لمن يحكمه. فما
يؤجج بغضه هو التلاعب بقيم الدين، وتوزيع الدور الوظيفي على ممثلين له ليس بينهم وبين الناس صلة أو سبب لانبساط الثقة وامتداد المودة. ثم يزداد
الحنق كلما استدعي الدين ليبرر الاعوجاج ويغطي على الرذائل السياسية. وليس لأهل الدين وممثليه من أثر
في باقي
حياة الحاكم، بل هم وإياه مهربه ومنفذه كلما عنت للناس لمحة من أمل.
وعلى هذا المنوال المرسوم، لك أن تقيس ‘توالد الفتاوى’ من صاحب الفضيلة
الفلاني وجمعية العلماء العلانية ومجلس الإفتاء ‘إياه’ ومشيخة الجامع ‘إيــــاها’ واعربـــها على ما
تقدم بين
يديك من الأوصاف، ستجد أن المرض الذي أنهك هذه الأمة هو التلاعب برصيدها المعنوي حتى قتلت فيها كل مكامن
القوة وأنضبت من منابعها كل الطاقات.
لقد اعتقد الحكام تحت ضغط الحاجة إلى استمرار عهودهم أن غفلة الناس إلى ما
لا نهاية، وأن التلبيس عليها يسهل ببعض بني جلدتها ولكن هيهات، فحتى ممثلو الدين من المحيطين بالحاكم قد استنفذوا كل ما لديهم وغدا ظهورهم وهم
يسوغون ويسوقون بطولات الحاكم الإجرامية مثيرة للشفقة تارة ومثيرة للحقد تارات، فلينتبهوا قبل فوات الأوان.
كاتب جزائري
نقلا عن موقع التقدمية
Aucun commentaire :
Enregistrer un commentaire