mardi 20 septembre 2011

العلمانية واللائكية والإسلام.. رفعا للالتباس


عادل لطيفي
يُعرف في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية أن كثرة استعمال مفهوم ما لا يؤشر بالضرورة على وضوح معناه أو إلى اتفاق حول مجالات استعماله. مفاهيم مثل العلمانية واللائكية وعلاقتهما بالإسلام، تشهد في العالم العربي ومنذ سنوات تضخما مفرطا في استعمالها وصل حد التخمة والخلط والمغالطة مع اندلاع الحراك الثوري. خلط مصدره بعض ممن تموضعوا في خط الدفاع سواء عن الإسلام أو عن العلمانية. نقطة الالتقاء بين الفريقين هي افتقار أرضية معرفية تستند إلى المقاربة السوسيولوجية والتاريخية والأنثروبولوجية.

العلمانية كمسار لتحول مجتمعي تلقائي
وجب التنبيه في البداية أن الكلمة العربية المستعملة، وهي العَلْمانية، لا علاقة لها بلفظ العلم بل هي اشتقاق من كلمة العَالَمْ. وهي ترجمة خاطئة للكلمة الفرنسية والإنجليزية (sécularisation) المشتقة من الكلمة اللاتينية saeculum  ومعناها الجيل أو القرن أي الأشياء المرتبطة بالعالم البشري وبالزمن الأرضي.
فالكلمة الأقرب في المجال اللغوي العربي، إذا أردنا اشتقاق المفهوم، هي كلمة الزمن أو الدنيا وتكون العلمانية بذلك زَمْنَنَة. ومثلها موجود في لغات أخرى غير العربية واللاتينية. ذلك أن تفاعل وتعارض البشري النسبي مع المطلق الديني والمقدس عرفته كل الثقافات التي تطورت فيها التصورات والتعبيرات الحضارية منذ القدم.
تاريخيا، استعملت الكلمة الفرنسية والإنجليزية للدلالة على انتقال ملكيات المؤسسة الكنسية، في بعض الحالات، إلى أشخاص أو إلى مؤسسات دنيوية وزمنية وخاصة بعد الحروب الدينية خلال القرن السادس عشر والإصلاحات التي تبعتها.
في مجال العلوم الاجتماعية استنبط مفهوم سيكولاريزاسيون (بالفرنسية) للدلالة على ما يسميه الدارسون بتراجع الجاذبية الاجتماعية للدين وذلك في إطار تطور عفوي وبطيء للمجتمع. يرى بيتر برجر (Peter BERGER) أن العلمنة (أو الزمننة) هي :"مسار (processus) تفقد بمقتضاه المؤسسات والرموز الدينية نفوذها على قطاعات من المجتمع ومن الثقافة".
وفي نفس هذا الاتجاه يرى براين ولسن أن العلمنة هي مسار يؤدي إلى فقدان المؤسسات والأفكار والممارسات الدينية لمعناها الاجتماعي. ويضيف أنها ناتجة عن عقلنة المؤسسات والتنظيمات الحديثة.
وتخلص بعض دراسات علم اجتماع الأديان، التي شملت عديد الثقافات والأديان بما فيها المجتمعات الإسلامية، إلى أن العلمنة تأخذ عدة اتجاهات من أهمها.
1- تطور أنماط التمثل الجماعي باتجاه الاستقلالية عن الدين. مثال ذلك تنامي الشعور بالانتماء للوطن والذي يؤشر إلى تحول من نظام قاعدته المجموعة الدينية (مثل الأمة الإسلامية) إلى نظام قاعدته المجموعة الاجتماعية.
2- تكون فضاء معرفي مستقل عن التصورات الدينية.
3- استقلالية الوعي والتصرفات الفردية عن الفهم الديني المطلق والكلي.
من المهم إذن الحديث عن العلمنة كمسار لتطور مجتمعي تلقائي أكثر من الحديث عن العلمانية كموقف أيديولوجي أو سياسي وخاصة في الحالة الفرنسية كما سنرى.
هل العلمنة ظاهرة غربية بامتياز؟ الجواب بالتأكيد هو: لا، لأن العلمنة كمسار للتطور المجتمعي مرتبطة أكثر بثنائيات الديني والزمني والمقدس والوضعي والعلاقة العمودية والعلاقة الأفقية، وهي ثنائيات من صميم الاجتماع الإنساني مهما تنوعت واختلفت أنماط التعبير الثقافي عنها.
ففي الفضاء الهندي المتنوع الأعراق والأديان، تجد الهندوسية التقليدية والأصولية نفسها في تحد حقيقي أمام مسار العلمنة الذي تسارع مع توسع دائرة الاعتراف بالتنوع الديني. فمنذ صعود حزب بهراتيا جناتا بدأ الصراع السياسي يدور حول مفهومي العلمنة والهندوتفا (hindutva) بتعبيرات رافضة لما تسميه بالأيديولوجيات الغربية مثل الليبرالية والإسلام والمسيحية والشيوعية.
ويعد الوضع الاجتماعي للمرأة من بين قلاع المقاومة الهندوسية للعلمنة التي تطالب برفض القوانين الوضعية التي تشجع خروج المرأة إلى الفضاء العام وتساوي بينها وبين الرجل.
في الفضاء الياباني المختلف عن الغرب من حيث الثقافة والدين دليل آخر على عالمية وكونية العلمنة. إذ يطلق لفظ سيزوكوكا (sezokuka) للدلالة عن العلمنة التي بدأ يشهدها المجتمع الياباني منذ القرن السابع عشر وذلك بتأكد نفوذ طبقة المحاربين الشوغون وبتراجع المؤسسات والرموز المرتبطة بالبوذية. كما شجعت طبقة السموراي الثقافة الكونفوشيوسية التي اعتبرتها أكثر علمنة من البوذية. وقد دخلت العلمنة مرحلة حاسمة في هذا البلد مع إصلاحات الميجي منذ سنة 1867.
قد يكون مفهوم العلمنة مستوردا إذن، لكن الحالة التاريخية والمجتمعية التي يعبر عنها غير مرتبطة فقط بالغرب. هناك تطور عام من مرحلة الأديان باعتبارها أنظمة كلية إلى مرحلة من النسبية التي تتقاسم فيها الثقافة الدينية تأثيرها الاجتماعي مع أنماط أخرى من التمثل والوعي. 
أما القول بأن الفصل بين الديني والدنيوي واضح في الحالة المسيحية فهو خاطئ، وهو تفسير متأخر حاول التمشي مع التطورات الحداثية التي شهدتها أوروبا. فنحن لا نجد هذا الفصل لدى أول منظري المسيحية وهو سانت أوغوستان بين القرنين الرابع والخامس ميلادي.

اللائكية والخصوصية الفرنسية
إن ارتبطت العلمنة بالمجتمع وتمثلت في حركة تطورية تلقائية تتجاوز حدود الثقافات فإن اللائكية حالة فرنسية بامتياز وارتبطت بمؤسسة الدولة وتحييدها القانوني عن تأثير المؤسسة الدينية. فاللائكية تعني الفصل القانوني بين المؤسسة الدينية والدولة كما أقره قانون سنة 1905. لكن هذا الفصل لا يعني إلغاء الدين بل عدم تدخل الدولة في المجال الديني.
فأغلب سكان فرنسا كاثولويك وجزء مهم منهم متدينون لكن أغلبهم لائكيون لأن اللائكية لا تلغي الدين أو التدين. لماذا تعد اللائكية خصوصية فرنسية؟ هذا مرتبط في الحقيقة بخصوصية التاريخ الفرنسي.
فقد لعبت الكنيسة الكاثوليكية دورا بارزا ومؤثرا في المجتمع الفرنسي. كانت فرنسا تسمى في العصور الوسطى بالابنة الكبرى للكنيسة. كما أن ملوك فرنسا كانوا دائما في صدارة المدافعين عن المؤسسة البابوية وذلك منذ عهد شارلماني في القرن الثامن.
نضيف إلى هذا شدة الاختلاف بين الجزأين الشمالي والجنوبي لفرنسا على مستوى التقاليد الثقافية والاجتماعية. الشمال متأثر بالتعدد الديني لشمال أوروبا ومنفتح وخاضع أكثر لتقليد القانون العرفي (المحلي) أما في الجنوب فتأصلت التقاليد الكاثوليكية منذ القدم كما طغى القانون الروماني. يمكن أن نضيف إلى ذلك حروب الأديان الطاحنة التي امتدت لعشريات كاملة خلال القرن السادس عشر.
المهم أن مختلف هذه المعطيات جعلت الحسم الواضح مسألة حتمية وهو ما تجلى في الثورة الفرنسية التي فتحت الصراع على مصراعيه بين الجمهورية والكنيسة. هذه الأخيرة لم تعترف بها إلا مع نهاية القرن التاسع عشر. صراع بدأ بقانون وفاقي أمضاه نابليون بونابارت سنة 1802 وانتهى بقانون الفصل سنة 1905.
اللائكية إذن حالة قانونية تهم الدولة وهي مبنية على الصراع، أما العلمنة فحركة داخلية عفوية تاريخية تهم المجتمع. لهذا السبب لا نجد في اللغة الفرنسية مرادفا لكلمة علماني أو علمانية. لا وجود لذلك الشخص الذي يتبنى العلمنة كموقف أيديولوجي أو سياسي. العلمنة إذن ليست موقفا سياسيا أو أيديولوجيا على عكس اللائكية. كما أن اللائكية هي تتويج جذري ونهائي لمسار العلمنة الذي شهده الواقع الفرنسي.
أما في التقليد الأنجلوساكسوني، وعلى عكس المسار الفرنسي، نجد كلمة علمنة (secularisation) وكلمة تعلمن (secularism) وكذلك كلمة عَلماني (secularist). لماذا؟ لأن المسار التاريخي الإنجليزي لم يكن مسارا صداميا يفرض القطع الجذري كما كان الحال في فرنسا.
فالتاريخ الإنجليزي الحديث عموما هو تاريخ تراكمي بطئ وتواصلي بدأ بثورة سنة 1641 ثم تلتها الثورة الثانية سنة 1688. وكانت الثورتان سلميتين ولم تؤديا إلى القطع التام مع التقاليد القديمة مما يفسر بقاء المؤسسة الملكية إلى اليوم.
وشمل ذلك علاقة المجتمع والدولة بالدين كمؤسسة كثقافة وكرمز.
لهذا السبب، نرى أن الدستور الإنجليزي يعترف بالكنيسة الأنجلوساكسونية ككنيسة وطنية، لكن ذلك لم يمنع المنظومة القانونية من أن تكون معلمنة أي وضعية وتخضع لعقلنة الحياة البشرية وتنوعها وتغيرها.
لم تشهد بريطانيا ذلك الجدل الفرنسي بين اللائكيين خاصة من المفكرين ومن رجال التعليم، ورجال الدين، بل كانت العلمنة كمسار تطوري هي العامل الحاسم خاصة وقد تمثلت في موقف سياسي ونظرة فكرية للواقع. نفس هذا التطور شهدته اليابان حيث تعد العلمانية موقفا سياسيا وفكريا.  

الإسلام في خضم العلمانية واللائكية
النقاش حول الإسلام مرتبط في بادئ الأمر بالاعتراف بوجود علاقة عمودية وبالبعدين الزمني النسبي والإلهي المطلق في الإسلام كما في التقاليد الدينية الأخرى. فلا نستغرب بالتالي تنقل بعض الوظائف الاجتماعية بين فضائي الأرضي البشري والإلهي كما بينا ذلك في بعض الثقافات الأخرى.
ونجد في تاريخ الإسلام عديد الشواهد على ذلك. فحسب سيرة ابن إسحاق، نجد أن المعاهدة الأولى التي تمت بين المهاجرين والأنصار وسائر مكونات مجتمع يثرب بعد الهجرة اعتمدت على مفهوم سياسي مفتوح للأمة أدمجت بمقتضاه قبائل يهودية في هذه الأمة الناشئة. أي أن أسس الأمة في هذه الحالة هي سياسية وليست دينية.
التمييز بين السلطة الدينية والسلطة السياسية واضح في التاريخ الإسلامي وذلك من خلال نموذجي الخليفة والسلطان. فالخلافة هي مؤسسة الحكم الديني بامتياز باعتبار استنادها على شرعية خلافة النبوة في بعدها السياسي والأخلاقي.
لكننا نعلم في نفس الوقت أن شرعية الخلافة انتقلت بسرعة من شرعية دينية إلى شرعية وراثية سلالية أي إلى شرعية بشرية علمانية. في هذا الإطار فضل السلاطين العثمانيون لقب السلطان الوضعي على لقب الخليفة الديني.
نجد آثارا للعلمنة باعتبارها مسارا لعقلنة التصرف الاجتماعي حتى في الفقه. فقاعدة الضرورات تبيح المحظورات تدخل ضمن منطق العلمنة. بما تعنيه في هذه الحالة من أولوية الضرورة البشرية على المحظور الديني.
يمكننا أن نضيف في هذا السياق ما يعرف بأدب الحيل والذي اختص بإيجاد مخارج لما اعتبر مأزقا فقهيا. والملاحظ أن أغلب مواضيع الحيل متعلقة بالحياة اليومية للمسلم وبالمعاملات التي تتطلب ليونة التشريع وأقلمته وتحيينه أي في النهاية عقلنته وعلمنته.
أما فيما يتعلق بالمعرفة المٌعَلمنة، والتي يدعي البعض أننا استوردناها من الغرب، فنجد في آثار العلامة ابن خلدون مثالا حيا على عقلنة هذا الجانب. مؤسس علم التاريخ وعلم الاجتماع بامتياز، يضع عامل العصبية، أي العامل البشري، في مرتبة المحدد الفاصل لتطور المجتمع عوض عامل الإيمان والعقيدة.
الواقع أن مسار العلمنة قد تسارع في العالم العربي والإسلامي خلال القرن التاسع عشر ليس فرضا من طرف القوى الاستعمارية دائما، بل بسب ما بدا من عجز للهياكل التقليدية في مواكبة تطورات العصر. لذلك كان التعليم من بين أول المجالات التي تمت علمنتها من خلال مدارس جديدة في مصر محمد علي وفي تونس مع مدرسة باردو الحربية والمدرسة الخلدونية والصادقية.
نضيف إلى ذلك أن الاعتراف بالتعدد الديني والعرقي في الإمبراطورية العثمانية حتم إصلاح المنظومة القانونية. فتم في هذا السياق صياغة التنظيمات وفي تونس صياغة عهد الأمان سنة 1857.
المشكل في العمق إذن ليس في المواجهة المفتعلة بين الإسلام والعلمنة، لأن الإسلام كتجربة تاريخية يبقى مفتوحا أمام إبداعات المسلمين كفاعلين تاريخيين. بل إن التعارض الحاصل اليوم هو بين قراءة انتقائية ومغلقة للإسلام، وبين مسار التطور الموضوعي للمجتمعات الإسلامية.

ما هي النتائج الإجرائية لهذا التمشي المنهجي؟ أرى أن العالم العربي، ما عدا لبنان، هو أقرب إلى نموذج العلمنة منه إلى نموذج اللائكية الفرنسية. وهذا يعني الاعتراف الدستوري بالإسلام كهوية حضارية لا كمنظومة قانونية جامدة.

Aucun commentaire :

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...